فصل: السنة الثامنة عشرة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 السنة الثامنة عشرة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر

وهي سنة أربع وثمانين وخمسمائة‏.‏

فيها توفي الأمير أسامة بن مرشد بن علي بن المقلد بن نصر بن منقذ الأمير أبو الحارث مؤيد الدولة مجد الدين الكناني‏.‏

مولده بشيزر في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وكانت له اليد الأولى في الأدب والكتابة والشعر وكان فارسًا شجاعًا عاقلًا مدبرًا كان يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب الجاهلية وطاف البلاد ثم استوطن حماة فتوفي فيها في شهر رمضان وقد بلغ ستًا وتسعين سنة‏.‏

وله ديوان شعر مشهور وكان السلطان صلاح الدين مغرى بشعره‏.‏

ومن شعره في قلع الضرس‏:‏ وصاحب لا أمل الدهر صحبته يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت عيني عليه افترقنا فرقة الأبد وقال في أيام الملك العادل نور الدين الشهيد‏:‏ سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا له فكل على الخيرات منكمش أيامه مثل شهر الصوم طاهرة من المعاصي وفيها الجوع والعطش وفيها توفي مجاهد الدين خالص بن عبد الله الناصري خادم الخليفة الناصر لدين الله كان قريبًا من الخليفة سلم إليه مماليكه الخواص وكان سليم الباطن دينًا صلى به إمامه صلاة الفجر فقرًا الإمام فيها‏:‏ ‏"‏ إن الله وملائكته يصلون على النبي ‏"‏ فلما سمع خالص ذلك رفع صوته وهو في الصلاة وقال‏:‏ صلى الله عليك يا رسول الله‏.‏

فضحك القوم وقطعوا الصلاة‏.‏

فقال لهم خالق المذكور‏:‏ مجانين أنتم‏!‏ يقول الله‏:‏ صلوا عليه وسلموا تسليمًا وأسكت أنا‏!‏ وفيها توفي محمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن المظفر بن علي أبو حامد محيي الدين الشهرزوري الإمام الفقيه ولي القضاء بالموصل وقدم بغداد رسولًا من صاحب الموصل فأكرمه الخليفة وخلع عليه‏.‏

ثم عاد فمات في جمادى الأولى‏.‏

ومن شعره‏:‏ ولما شاب رأس الدهر غيظًا لما قاساه من فقد الكرام أقام يميط عنه الشيب عمدًا وينشر ما أماط على الأنام الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قاد‏:‏ وفيها توفي الأمير مؤيد الدولة أبو المظفر أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني في شهر رمضان عن سبع وتسعين سنة‏.‏

وظاعن بن محمد الزبيري الخياط‏.‏

وأبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ‏"‏ بن يوسف بن أبي عيسى القاضي ‏"‏ بن حبيش الأنصاري بمرسية وكان خطيبها وقاضيها ومحدثها ومسندها توفي في صفر وأبو القبائل بن علي عن مائة سنة وزيادة‏.‏

والعلامة شمس الأئمة عماد الدين عمر بن شمس الأئمة بكر بن محمد الزرنجري البخاري شيخ الحنفية في شوال وله خمس وستون سنة‏.‏

وأبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن الحسن بن صدقة الحراني التاجر وله سبع وتسعون سنة‏.‏

والحافظ أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان الحازمي الهمذاني في جمادى الأولى شابًا وله خمس وثلاثون سنة‏.‏

وأبو الفرج يحيى بن محمود الثقفي الصوفي في نواحي همذان غريبًا‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع واثنتا عشرة إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وثلاث عشرة إصبعًا‏.‏

السنة التاسعة عشرة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة خمس وثمانين وخمسمائة‏.‏

فيها وفي السلطان صلاح الدين على عكة حسام الدين بشارة وولى على عمارة سررها الخادم بهاء الدين قراقوش‏.‏

وفيها توفي الأمير طمان بن عبد الله النوري صاحب الرقة كان شجاعًا جوادًا محبًا للخير كثير الصدقات يحب الفقهاء والعلماء بنى مدرسة بحلب للحنفية‏.‏

وكانت وفاته في ليلة نصف وفيها توفي عبد الله بن محمد بن هبة الله بن المطهر بن علي أبو سعد بن أبي السري التميمي الموصلي القاضي شرف الدين بن أبي عصرون‏.‏

كان إمامًا فاضلًا مصنفًا وكان خصيصًا بالملك العادل نور الدين ثم اقتضى به السلطان صلاح الدين وولي القضاء بعدة بلاد وضر قبل وفاته بعشر سنين‏.‏

ومن شعره قوله‏:‏ كل جمع إلى الشتات يصير أي صفو ما شانه التكدير أنت في اللهو والأماني مقيم والمنايا في كل وقت تسير وفيها توفي الفقيه عيسى الهكاري ضياء الدين حضر فتح مصر مع أسد الدين شيركوه وهو الذي مشى بين الأمراء وبين السلطان صلاح الدين لما ولي وزارة العاضد بعد موت عمه أسد الدين شيركوه حسب ما تقدم ذكره حتى تم أمره‏.‏

ثم حضر مع السلطان صلاح الدين فتح القدس والغزوات وكان صلاح الدين يميل إليه ويستشيره وكأن الله قد أقامه لقضاء حوائج الناس والتفريج عن المكروبين مع الورع والعفة والدين - رحمه الله -‏.‏

وفيها توفي الأمير موسك بن جكو ابن خال صلاح الدين‏.‏

كان حافظًا للقرآن سامعًا للحديث وكان محسنا إلى الناس ملازما للسلطان في غزواته وكان دينا صالحا جوادا مرض بمرج عكا فأمره السلطان أن يمضي إلى دمشق ليتطبب بها فتوجه إلى دمشق ومات بها - رحمة الله -‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي أبو العباس الترك أحمد بن أحمد بن محمد بن ينال شيخ الصوفية بأصبهان ومسندها في شعبان‏.‏

وأبو الحسين أحمد بن حمزة الموازيني في المحرم‏.‏

وقاضي القضاة شرف الدين أبو سعد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون التميمي الموصلي في رمضان‏.‏

وأبو الفضل عبد المجيد بن الحصيني بن يوسف بن الحسن بن أحمد بن دليل الإسكندراني المعدل‏.‏

وشيخ الشافعية أبو طالب المبارك بن المبارك بن المبارك الكرخي صاحب ابن الخل‏.‏

وأبو المعالي وأبو النجاح منجب بن عبد الله المرشدي الخادم في المحرم‏.‏

والحافظ يوسف بن أحمد الشيرازي ثم البغدادي الصوفي‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وخمس عشرة إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا واثنتان وعشرون إصبعًا‏.‏

السنة العشرون من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة ست وثمانين وخمسمائة‏.‏

وفيها حج بالناس من العراق طاشتكين المذكور في السنة الماضية‏.‏

وفيها توفي مسعود بن علي بن عبيد الله أبو الفضل بن النادر الصفار الأديب الشاعر كان بارعًا في الأدب وكتب خطًا حسنًا نحوًا من مائة ربعة‏.‏

ومن شعره قوله‏:‏ تولوا فأولوا الجسم من بعدهم ضنًا وحرًا شديدًا في الحشا يتزايد وزاد بلائي بالذين أحبهم وللناس فيما يذهبون مقاصد وفيها توفي يوسف بن علي بن بكتكين الأمير زين الدين صاحب إربل‏.‏

كان قدم إلى السلطان صلاح الدين نجمة فمرض ومات وفرح بموته أخوه مظفر الدين وتولى إربل مكانه من قبل السلطان صلاح الدين‏.‏

وكان زين الدين أميرًا كبيرًا شجاعًا مقدامًا مدبرًا‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي الحافظ أبو المواهب الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التغلبي الدمشقي وله تسع وأربعون سنة‏.‏

وأبو الطيب عبد المنعم بن يحيى بن خلف بن نفيس بن الخلوف الغرناطي المقرئ‏.‏

وأبو عبد الله محمد بن سعيد بن أحمد بن عبد العزيز بن عبد البر بن مجاهد المعروف ب ‏"‏ ابن زرقون الإشبيلي المالكي المسند‏.‏

وأبو بكر محمد بن عبد الله بن يحيى بن الفرح بن الجد الفهري الحافظ بإشبيلية‏.‏

وقاضي القضاة محيي الدين أبو حامد محمد ابن قاضي القضاة كمال الدين بن الشهرزوري وله اثنتان وستون سنة أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وخمس وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وأربع أصابع‏.‏

السنة الحادية والعشرون من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة سبع وثمانين وخمسمائة‏.‏

فيها كان استيلاء الفرنج على عكا كما تقدم في ترجمة السلطان صلاح الدين من هذا الكتاب‏.‏

وفيها توفي الموفق أسعد بن إلياس بن جرجس المعروف بابن المطران الطيب‏.‏

كان نصرانيًا فأسلم على يد السلطان وكان غزير المروءة حسن الأخلاق كريم العشرة‏.‏

وكان يصحبه صبي حسن الصورة اسمه عمر‏.‏

وكان الموفق يحب أهل البيت ويبغض ابن عنين الشاعر لخبث لسانه وكان يحرض السلطان صلاح الدين عليه ويقول له‏:‏ أليس هذا هو القائل‏:‏ سلطاننا أعرج وكاتبه أعمش والوزير منحدب قالوا الموفق شيعي فقلت لهم هذا خلاف الذي للناس منه ظهر فكيف يجعل دين الرفض مذهبه وما دعاه إلى الإسلام غير عمر وفيها توفي سليمان بن جنحرة كان من أكابر أمراء حلب ومشائخ الدولتين‏:‏ النورية والصلاحية شهد مع السلطان صلاح الدين حروبه كلها وهو الذي أشار بخراب عسقلان مصلحة للمسلمين‏.‏

ومات في أواخر ذي الحجة‏.‏

وفيها توفي عمر بن شاهنشاه بن أيوب الملك المظفر تقي الدين‏.‏

قد ذكرنا من أمره‏:‏ أن عمه السلطان صلاح الدين كان أعطاه حماة وعدة بلاد من حماة إلى ديار بكر فطمع في مملكة الشرق فنفرت عنه وعن عمه صلاح الدين القلوب لعظم طمعهما‏.‏

ووقع لتقي الدين هذا مع بكتمر بن عبد الله مملوك شاه أرمن صاحب خلاط وقائع وحروب فمات تقي الدين بتلك البلاد فكتم محمد ولده موته وحمله إلى ميافارقين فدفن بها‏.‏

وكانت وفاته يوم الجمعة عاشر شهر رمضان ثم بنيت له مدرسة بظاهر حماة فنقل إليها‏.‏

وكان السلطان صلاح الدين يكره ابنه محمدًا فأخذ منه بلاد أبيه وأبقى معه حماة لا غير‏.‏

ولقب محمد هذا بالملك المنصور‏.‏

وهو أبو ملوك حماة من بني أيوب الآتي ذكرهم‏.‏

وكان تقي الدين شجاعًا مقدامًا شاعرًا فاضلًا عاشر العلماء والأدباء وتخلق بأخلاقهم وله ديوان شعر‏.‏

ومن شعره‏:‏ هبكم حجبتم أن أرا - - ه فهل لقلب الضب حاجز وفيها توفي يحيى السهروردي المقتول بحلب كان يعاني علوم الأوائل والمنطق والسيمياء وأبواب النيرنجيات فاستمال بذلك خلقًا كثيرًا وتبعوه وله تصانيف في هذه العلوم‏.‏

واجتمع بالملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب فأعجب الظاهر كلامه ومال إليه‏.‏

فكتب أهل حلب إلى السلطان صلاح الدين‏:‏ أدرك ولدك وإلا تتلف عقيدته فكتب إليه أبوه صلاح الدين بإبعاده فلم يبعده فكتب بمناظرته فناظره العلماء فظهر عليهم بعبارته فقالوا‏:‏ إنك قلت في بعض تصانيفك‏:‏ إن الله قادر على أن يخلق نبيًا وهذا مستحيل‏.‏

فقال‏:‏ ما وجه استحالته فإن الله القادر هو الذي لا يمتنع عليه شيء‏.‏

فتعصبوا عليه فحبسه الظاهر وجرت بسببه خطوب وشناعات‏.‏

وكان السهروردي رديء الهيئة زري الخلقة دنس الثياب وسخ البدن لا يغسل له ثوبًا ولا جسمًا ولا يقص ظفرًا ولا شعرًا فكان القمل يتناثر على وجهه وكان من رآه يهرب منه لسوء منظره وقبح زيه‏.‏

وطال أمره إلى أن أمر السلطان بقتله فقتل في يوم الجمعة منسلخ ذي الحجة من هذه السنة أخرج من الحبس ميتًا‏.‏

ومما ينسب إليه من الشعر القصيدة التي أولها‏:‏ أبدًا تحن إليكم الأرواح ووصالكم ريحانها والراح وقال السيف الآمدي‏:‏ اجتمعت بالسهروردي بحلب فقال لي‏:‏ لا بد أن أملك الأرض‏.‏

فقلت‏:‏ من أين لك هذا‏.‏

فقال رأيت في المنام أني شربت ماء البحر فقلت‏:‏ لعل ذلك يكون اشتهار العلم فلم يرجع فرأيته كثير العلم قليل العقل‏.‏

ويقال‏:‏ إنه لما تحقق القتل كان كثيرًا ما ينشد‏:‏ أرى قدمي أراق دمي وهان دمي فها ندمي والأول قول أبي الفتح البستي وهو قوله‏:‏ إلى حتفي سعى قدمي أرى قدمي أراق دمي فلا أنفك من ندمٍ وليس بنافعي ندمي وفيها توفي الشيخ نجم الدين الخبوشاني‏.‏

قال صاحب المرآة‏:‏ ‏"‏ قدم إلى الديار المصرية وأظهر الناموس وتزهد وكان يركب الحمار فيقف على السلطان صلاح الدين وأهله‏.‏

وأعطاه السلطان مالًا فبنى به المدرسة التي بجانب الشافعي - رحمة الله عليه - وكان كثير الفتن - منذ دخل مصر إلى أن مات - ما زالت الفتنة قائمة بينه وبين الحنابلة ‏"‏ و ‏"‏ ابن الصابوني وزين الدين بن نجية يكفرونه ويكفرهم وكان طائشًا متهورًا نبش على ابن الكيزاني وأخرج عظامه من عند الشافعي وقد تقدم ذلك‏.‏

وكان يصوم ويفطر على خبز الشعير فلما مات وجد له ألوف الدنانير وبلغ صلاح الدين فقال‏:‏ يا خيبة المسعى‏!‏ ومات في صفر‏.‏

وتولى بعده - تدريس مدرسة الشافعي التي بناها - شيخ الشيوخ صدر الدين ابن حمويه‏.‏

انتهى كلام صاحب المرآة باختصار بعد أن ثلب الخبوشاني المذكور بمساوئ أضربت عن ذكرها - رحمه الله تعالى -‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي الفقيه أبو محمد عبد الرحمن بن علي الخرقي اللخمي في ذي القعدة وله ثمانٍ وثمانون سنة‏.‏

وأبو المعالي عبد المنعم بن عبد الله بن محمد الفراوي في شعبان‏.‏

وصاحب حماة المظفر عمر بنى شاهنشاه بن أيوب‏.‏

ونجم الدين محمد بن الموفق الخبوشاني الشافعي الزاهد‏.‏

والشهاب السهروردي الفيلسوف‏.‏

ويعقوب بن يوسف الحربي المقرئ‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وأربع عشرة إصبعًا‏.‏

السنة الثانية والعشرون من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة‏.‏

فيها توفي سنان بن سليمان صاحب الدعوة بقلاع اللثام‏.‏

كان أصله من البصرة من حصن الموت فرأى منه صاحب الأمر بتلك البلاد نجابة وشهامة وعقلًا وتدبيرًا فسيره إلى حصون الشام فسار حتى وصل إلى البلاد الشامية وكان فيه معرفة وسياسة‏.‏

وجد في إقامة الدعوة واستجلاب القلوب وكان مجيئه إلى الشام في أيام السلطان الملك العادل نور الدين الشهيد‏.‏

فجرت له معه حروب وخطوب واستولى سنان هذا على عدة قلاع وأقام واليًا ثلاثين سنة والبعوث ترد عليه في كل قليل من قبل نور الدين‏.‏

ثم إن السلطان نور الدين عزم على قصده فتوفي‏.‏

وأقام سنان على ذلك إلى أن توفي ببلاد الشام في هذه السنة‏.‏

وفيها توفي علي بن أحمد الأمير سيف الدين بن المشطوب ملك الهكارية‏.‏

وكان أميرًا شجاعًا صابرًا في الحروب مطاعًا في قبيلته دخل مع أسد الدين شيركوه إلى مصر في مراته الثلاث ثم عاد بعد سلطنة صلاح الدين إلى البلاد الشامية فدام بها إلى أن مات في آخر شوال‏.‏

وقال ابن شداد‏:‏ مات بالقدس وصلي عليه بالجامع الأقصى‏.‏

وفيها توفي السلطان قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق الملك عز الدين السلجوقي صاحب بلاد الروم‏.‏

طالت أيامه واتسعت ممالكه‏.‏

ولما أسن أصابه الفالج فتعطلت حركته وتنافس أولاده في الملك وحكم عليه ولده قطب الدين ملكشاه وقتل كثيرًا من خواصه في حياة أبيه‏.‏

وكان قطب الدين مقيمًا بسيواس وأبوه بقونية‏.‏

ثم جاء إلى أبيه يقاتله فأخرج إليه العساكر فالتقاهم قطب الدين وكسرهم وبدد شمل أصحاب أبيه ثم ظفر بأبيه فأخذه مكرها وحمله إلى قيسارية ووقع له معه أمور أخر‏.‏

وآخر الأمر أنه عهد إلى ولده غياث الدين بالملك ولم يعهد لقطب الدين‏.‏

وكانت وفاته في نصف شعبان‏.‏

وفيها توفي نصر بن منصور أبو المرهف النميري الشاعر المشهور منسوب إلى نمير بن عامر بن صعصعة‏.‏

ولد برقة الشام وأمه بنت سالم بن مالك صاحب الرحبة وربي بالشام وعاشر الأدباء وقال الشعر وهو ابن ثلاث عشرة سنة‏.‏

وقل بصره بالجحري وله أربع عشرة سنة‏.‏

وقدم بغداد ليداوي عينيه فآيسه الأطباء فحفظ القرآن وتفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - وكان طاهر اللسان عفيفًا دينًا‏.‏

وله مدائح في صلاح الدين وغيره‏.‏

ومن شعره - رحمه الله تعالى -‏:‏ ترى يتألف الشمل الصديع وآمن من زمان ما يروع وتأنس بعد وحشتنا بنجدٍ منازلنا القديمة والربوع ذكرت بأيمن العلمين عصرًا مضى والشمل ملتئم جميع فلم أملك لدمعي رد غرب وعند الشوق تعصيك الدموع وأخوف ما أخاف على فؤادي إذا ما أنجد البرق اللموع لقد حملت من طول التنائي عن الأحباب ما لا أستطيع الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي الفقيه أحمد ابن الحسين بن علي العراقي الحنبلي بدمشق‏.‏

والمحدث أبو الفضل إسماعيل بن علي الجنزوري الشروطي بدمشق في سلخ جمادى الأولى‏.‏

وأبو ياسر عبد الوهاب ابن هبة الله بن عبد الوهاب بن أبي حبة الدقاق بحران في شهر ربيع الأول‏.‏

وأبو جعفر عبيد الله بن أحمد ابن علي بن علي بن السمين‏.‏

والأمير الكبير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المشطوب في شوال بالقدس‏.‏

وصاحب الروم قليج أرسلان بن مسعود السلجوقي‏.‏

والنسابة أبو علي محمد بن أسعد الحسيني الجواني بمصر‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وثلاث وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وإحدى عشرة إصبعًا‏.‏

سلطنة الملك العزيز عثمان على مصر هو الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان سلطان الديار المصرية وابن سلطانها الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان الأيوبي الكردي الأصل المصري‏.‏

ولي سلطنة مصر في حياة والده صورة ثم تسلطن بعد وفاته استقلالًا باتفاق الأمراء وأعيان الدولة بديار مصر لأنه كان كان نائبًا عن أبيه صلاح الدين بها لما كان أبوه مشتغلًا بفتح السواحل بالبلاد الشامية وتم أمره‏.‏

وكان مولده بالقاهرة في ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة‏.‏

وكان الملك العزيز هذا أصغر من أخيه الملك الظاهر غازي صاحب حلب وأصغر من أخيه الأفضل صاحب دمشق‏.‏

وكان الأفضل هو أكبر الإخوة وهو المشار إليه في أيام أبيه صلاح الدين ومن بعده وهو الذي جلس للعزاء بعد موت صلاح الدين وصار هو السلطان الأكبر إلى أن ظهر منه أمور منها‏:‏ أنه كان استوزر ضياء الدين الجزري فأساء ضياء الدين السيرة وشغف قلوب الجند إلى مصر وساروا إليها فالتقاهم الملك العزيز وأكرمهم وكانوا معظم الصلاحية‏.‏

واشتغل الأفضل بلهوه‏.‏

وكان القدس في يده فعجز عنه وسلمه إلى نواب الملك العزيز هذا فبان للناس عجز الأفضل‏.‏

ثم وقعت الوحشة بين العزيز هذا وبين أخيه الأفضل المذكور‏.‏

وبلغ الفرنج ذلك فطمعوا في البلاد وحاصروا جبلة وكان بها جماعة من الأكراد فباعوها للفرنج‏.‏

وبرز الملك العزيز من مصر يريد قتال الفرنج في الظاهر وفي الباطن أخذ دمشق من أخيه الأفضل وعلم الأفضل بذلك فكتب إلى عمه العادل أبي بكر بن أيوب وللمشارقة بالنجدة فأجابوه إلى ما يريد وكان مع العادل عدة بلاد بالشرق وكان لما توفي أخوه السلطان الملك الناصر صلاح الدين بالكرك قدم دمشق معزيًا للأفضل وأقام عنده أيامًا ثم رحل إلى محل ولايته بالجزيرة والرها وسميساط والرقة وقلعة جعبر وديار بكر وميافارقين وهي البلاد التي كان أعطاها له أخوه صلاح الدين في حياته وكان له أيضًا مع ذلك بالبلاد الشامية الكرك والشوبك‏.‏

والمقصود أن الملك العزيز هذا لما رحل من مصر إلى نحو دمشق سار حتى نزل بظاهر دمشق وقيل بعقبة الشحورة وجاء العادل بعساكر الشرق ونزل بمرج عدواء‏.‏

فأرسل إليه العزيز يقول‏:‏ أريد الاجتماع بالعادل فاجتمعا على ظهور خيلهما وتفاوضا فقال له العادل‏:‏ لا تخرب البيت وتدخل عليه الآفة‏!‏ والعدو وراءنا من كل جانب وقد أخذوا جبلة فارجع إلى مصر واحفظ عهد أبيك‏.‏

وأيضًا فلا تكسر حرمة دمشق وتطمع فيها كل أحد‏!‏ وعاد الملك العادل عنه إلى دمشق وأقام العزيز في منزلته‏.‏

وقدمت العساكر على الأفضل وبعث العادل إلى العزيز يقول له‏:‏ ارحل إلى مرج الصفر فرحل وهو مريض‏.‏

وكان قصد العادل أن يبعده عن البلد‏.‏

فوصل الملك الظاهر غازي من حلب والملك المنصور من حماة وشيركوه بن محمد بن شيركوه من حمص والأمجد من بعلبك والجميع نجمة للأفضل‏.‏

فقال لهم العادل‏:‏ قد تقرر أنه يرحل إلى مصر‏.‏

واشتد مرض العزيز فاحتاج إلى المصالحة ولولا المرض ما صالح فأرسل الملك العزيز كبراء دولته فخر الدين اياز جهاركس وغيره يحلف الملوك وطلب مصاهرة عمه العادل فزوجه ابنته الخاتون‏.‏

ورجع كل واحد إلى بلده وذلك في شعبان سنة تسع وثمانين وخمسمائة‏.‏

وقال العماد الكاتب الأصفهاني‏:‏ خرج الملوك لتوديع الملك العزيز إلى مرج الصفر واحدًا بعد واحد‏.‏

وأول من خرج إليه أخوه الملك الظاهر غازي صاحب حلب فبات عنده ليلة وعاد فخرج إليه أخوه الأفضل صاحب الواقعة فقام إليه واعتنقا وبكيا وأقام عنده أيضًا يومًا وكان قد فارقه منذ تسع سنين فلما عاد كتب إلى العزيز من إنشائه من عدة أبيات‏:‏ نظرتك نظرة من بعد تسع تقضت بالتفرق من سنين ولما انفصل العساكر عن دمشق شرع الأفضل على عادته في اللهو واللعب فاحتجب عن الرعية فسمي ‏"‏ الملك النوام ‏"‏ وفوض الأمر إلى وزيره ضياء الدين الجزري وحاجبه الجمال محاسن بن العجمي فأفسدا عليه الأحوال وكانا سببًا لزوال دولته‏.‏

واستمر الملك العزيز هذا بمصر وأمره ينمو ويزداد إلى سنة تسعين‏.‏

وفيها عاد الاختلاف ثانيًا بين العزيز والأفضل وسببه إغراء الجند والوسائط‏.‏

وكان أكبر المحرضين للعزيز على أخيه الأفضل أسامة حتى قال له‏:‏ إن الله يسألك عن الرعية هذا الرجل قد غرق في اللهو وشربه واستولى عليه الجزري وابن العجمي‏.‏

ثم قال له القاضي ابن أبي عصرون‏:‏ لا تسلم يوم القيامة‏.‏

وبلغ الأفضل قول أسامة وابن أبي عصرون فأقلع عما كان عليه وتاب وندم على تفريطه وعاشر العلماء والصلحاء وشرع يكتب مصحفًا بخطه وكان خطه في النهاية فلم يغن عنه ذلك‏.‏

وتحرك العزيز يقصده فسار الأفضل إلى عمه العادل يستنجد به فالتقاه العادل على صفين فسار معه بعساكر الشرق إلى دمشق وكان الأفضل لما اجتاز بحلب اتفق مع أخيه الظاهر غازي وتحالفا وجاء إلى حماة ففعل كذلك مع ابن عمه المنصور‏.‏

وصار العادل يشير عليه بعزل الجزري عن الوزارة ويقود له‏:‏ هذا يخرب بيتك‏.‏

فصار لا يلتفت إليه فحنق منه‏.‏

ثم إن العادل سأل الملك الظاهر غازي في شيء فلم يجبه فغضب لذلك العادل وانفرد عنهم وكتب إلى العزيز يخبره أنه معه ويستحثه على القدوم إلى دمشق فخرج العزيز من مصر مسرعًا ثم علم العادل أنه لا طاقة له بالعزيز ولا بالظاهر فراسل الأسدية الذين كانوا بمصر وأوعدهم بالأموال والإقطاعات‏.‏

وكان الملك العزيز قد قدم عليهم الصلاحية مماليك أبيه‏.‏

والأسدية هم مماليك عمه أسد الدين شيركوه وحواشيه الأكراد ثم دس العادل للأسدية الأموال وكان مقدم الأكراد الأسدية أبو الهيجاء السمين وكان العزيز قد عزله عن ولاية القدس وتقدمت الأسدية بسيف الدين جرديك فركب أبو الهيجاء بجموعه ومعه أزكش في الليل وقصدوا دمشق فأصبح العزيز فلم ير في الخيام من الأسدية أحدًا فرجع إلى مصر‏.‏

وشرع أزكش وأبو الهيجاء والأسدية يحرضون العادل على أخذ مصر وكانت الأسدية والأكراد يكرهون العادل وإنما دعتهم الضرورة إليه‏.‏

واتفق العادل مع ابن أخيه الأفضل وسارا إلى جهة العزيز نحو مصر‏.‏

فلما وصلوا إلى القدس ولوا أبا الهيجاء كما كان وعزلوا جرديك عنها ثم ساروا حتى نزلوا بلبيس وبها جماعة من الصلاحية‏.‏

فتوقف العادل عن القتال ولم ير انتزاع مصر من يد العزيز وظهرت منه قرائن تدل على أنه لا يؤثر السلطنة للأفضل ولا يرى بتقدميته على العزيز‏.‏

فأرسل العادل إلى العزيز يطلب منه القاضي الفاضل وكان الفاضل قد اعتزلهم وانقطع إلى داره فأرسل إليه العزيز يسأله فامتنع فتضرع إليه وأقسم عليه فخرج إلى العادل فاحترمه العادل وأكرمه وتحدث معه بما قرره وعاد الفاضل إلى العزيز وتحدث معه فأرسل العزيز ولديه الصغيرين مع خادم له برسالة ظاهرة مضمونها‏:‏ ‏"‏ لا تقاتلوا المسلمين ولا تسفكوا دماءهم وقد أنفذت ولدي يكونان تحت كفالة عمي العادل وأنا أنزل لكم عن البلاد وأمضي إلى الغرب ‏"‏‏.‏

وكان ذلك بمشهد من الأمراء فرق العادل وبكى من حضر‏.‏

فقال العادل‏:‏ معاذ الله ما وصل الأمر إلى هذا الحد‏.‏

وكان العادل قد قرر مع القاضي الفاضل رد خبز الأسدية وإقطاعاتهم وأملاكهم وأن يبقى أبو الهيجاء على ولاية القدس‏.‏

ثم قال العادل للأفضل‏:‏ المصلحة أن تمضى إلى أخيك وتصالحه ما عذرنا عند الله وعند الناس إذا فعلنا بابن أخينا ما لا يليق‏!‏‏.‏

وكان العزيز أرسل يقول للعادل مع الخادم المقدم ذكره‏:‏ ‏"‏ البلاد بلادك وأنت السلطان ونحن رعيتك ‏"‏‏.‏

ففهم الأفضل أن العادل رجع عن يمينه وأنه اتفق مع العزيز على أخذ البلاد منه لكنه لم يمكنه الكلام ومضى إلى أخيه الملك العزيز واصطلحا وعاد إلى دمشق‏.‏

ودخل العزيز والعادل والأسدية إلى القاهرة يوم الخميس رابع ذي الحجة‏.‏

وسلطن العادل العزيز ومشى بين يديه بالغاشية‏.‏

ولو أراد العادل مصر في هذه المرة لأخذها وإنما كان قصده الإصلاح بين الإخوة‏.‏

ثم وقع بين العزيز هذا والأفضل ثالثًا وهو أنه لما عاد الأفضل إلى دمشق ازداد وزيره الجزري من الأفعال القبيحة والأفضل يسمع منه ولا يخالفه فكتب قيماز النجمي وأعيان الدولة إلى العادل يشكونه فأرسل العادل إلى الأفضل‏:‏ ارفع يد هذا الأحمق السيء التدبير القليل التوفيق ‏"‏ فلم يلتفت‏.‏

فاتفق العادل مع ابن أخيه العزيز هذا على التوجه إلى الشام فسارا‏.‏

واستشار الأفضل أصحابه فكل أشار عليه بأن يلتقي عمه العادل وأخاه العزيز ولا يخالفهما إلا الجزري فإنه أشار بالعصيان فاستعد الأفضل للقتال والحصار وحلف الأمراء والمقدمين وفرقهم في الأبراج والأسوار فراسلوا العزيز والعادل وأصلحوا أمرهم في الباطن واتفق العادل مع عز الدين الحمصي على فتح الباب الشرقي وكان مسلمًا إليه فلما كان يوم الأربعاء سادس عشرين شهر رجب ركب العادل والعزيز وجاءا إلى الباب الشرقي ففتحه ابن الحمصي فدخلا إلى البلد من غير قتال فنزل العزيز دار عمته ست الشام ونزل العادل دار العقيقي ونزل الأفضل إليهما وهما بدار العقيقي فدخل عليهما وبكى بكاء شديدًا فأمره العزيز بالانتقال من دمشق إلى صرخد فأخرج وزيره الجزري في الليل في جملة الصناديق خوفًا عليه من القتل فأخذ أموالًا عظيمة وهرب إلى بلاده‏.‏

وكان العزيز قد قرر مع عمه العادل أن يكون نائبه بمصر ويقيم العزيز بدمشق‏.‏

ثم ندم فأرسل إلى أخيه الأفضل رسالة فيها صلاح حاله‏.‏

ثم وقعت أمور إلى أن سلم العزيز بصرى إلى العادل وكان بها الظافر‏.‏

وأقام العزيز بعد ذلك بدمشق مدة وصلى الجمعة عند قبر والده بالكلاسة وأمر ببناء القبة والمدرسة إلى جانبها ثم أمر محيي الدين بن الزكي بعمارة المدرسة العزيزية ونقل السلطان صلاح الدين إلى الكلاسة في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة‏.‏

وكان الأفضل قد شرع في بناء تربة عند مشهد القدم بوصية من السلطان صلاح الدين‏.‏

وكان الملك العزيز إذا جلس في مجالس لهوه يجلس العادل على بابه كأنه بردداره‏.‏

فلما كان آخر ليلة من مقام العزيز بدمشق وكانت ليلة الاثنين تاسع شعبان قال العادل لولده المعظم عيسى‏:‏ ادخل إلى العزيز فقبل يده واطلب منه دمشق وكان المعظم قد راهق الحلم فدخل إلى ابن عمه العزيز وقبل يده وطلب منه دمشق فدفعها إليه وأعطاه مستحقه وقيل‏:‏ بل استناب العادل فيها نم أعطاها للمعظم في سنة أربع وتسعين‏.‏

وكان خروج الملك العزيز من دمشق في يوم تاسع شعبان المذكور‏.‏

وسار إلى مصر ومضى الأفضل إلى صرخد واجتاز العزيز بالقدس فعزل أبا الهيجاء السمين عن نيابتها وولاها لسنقر الكبير ومضى أبو الهيجاء إلى بغداد‏.‏

واستمر الملك العزيز بمصر واستقامت الأمور في أيامه وعمل في الرعية وعف عن أموالها حتى قيل‏:‏ إن ابن البيساني أخا القاضي الفاضل بذل على قضاء المحلة أربعين ألف دينار فعجل منها عشرين ألفًا وكان رسوله في ذلك الملك العادل عم العزيز المقدم ذكره وبذل له عن ترسله خمسة آلاف دينار وللحاجب أبي بكر ألف دينار ولجهاركس ألف دينار‏.‏

فاجتمعوا على العزيز جميعًا وخاطبوه في ذلك وألح عليه الملك العادل‏.‏

فقال له العزيز‏:‏ والله يا عم هذا الرجل بذل لنا هذا البذل ‏"‏ لا ‏"‏ عن محبة لنا والله إنه ليأخذ من أموال الرعية أضعاف ذلك لا وليته أبدًا‏!‏ فرجع العادل عن مساعدته فلما آل الأمر إلى العادل صادر ابن البيساني المذكور وأخذ منه أموالًا كثيرة انتهى‏.‏

وقال القاضي شمس الدين بن خلكان في ترجمة الملك العزيز هذا بعد أن ذكر اسمه ولقبه قال‏:‏ أو كان ملكًا مباركًا كثير الخير واسع الكرم محسنًا إلى الناس معتقدًا في أرباب الخير والصلاح وسمع بالإسكندرية الحديث من الحافظ السلفي والفقية أبي طاهر بن عوف الزهري وسمع بمصر من العلامة أبي محمد بن بري النحوي وغيرهم‏.‏

ويقال‏:‏ إن والده لما كان بالشام والقاضي الفاضل عبد الرحيم بالقاهرة عند العزيز ولد للعزيز المذكور ولد فكتب القاضي الفاضل يهنئ والده السلطان صلاح الدين بولد ولده فقال‏:‏ المملوك يقبل الأرض بين يدي مولانا الملك الناصر دام رشده وإرشاده وزاد سعده وإسعاده وكثر أولياؤه وعبيده وأحفاده واشتد بأعضاده فيهم اعتضاده وأنمى الله عدده حتى يقال هذا آدم الملوك وهذه أولاده وينهي أن الله تعالى - وله الحمد - رزق الملك العزيز - عز نصره - ولدًا مباركًا عليًا ذكرًا سريًا ‏"‏ برًا ‏"‏ زكيًا نقيًا تقيًا من ورثةٍ كريمة بعضها من بعض وبيت شريف كادت ملوكه تكون ملائكة في السماء ومماليكه ملوكًا في الأرض‏.‏

انتهى ما كتبه القاضي الفاضل في التهنئة‏.‏

قال ابن خلكان - رحمه الله -‏:‏ ‏"‏ وكانت ولادة العزيز بالقاهرة في ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة‏.‏

وكان قد توجه إلى الفيوم فطرد فرسه وراء صيد فتقنطر به فرسه فأصابته الحمى من ذلك وحمل إلى القاهرة فتوفي بها في الساعة السابعة من ليلة الأربعاء الحادي والعشرين من المحرم سنة خمس وتسعين وخمسمائة - رحمه الله تعالى - قال‏:‏ ولما مات كتب القاضي الفاضل إلى عمه العادل رسالة يعزيه من جملتها‏:‏ ‏"‏ فنقول في توديع النعمة بالملك العزيز‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله قول الصابرين ونقول في استقبالها بالملك العادل‏:‏ الحمد لله رب العالمين قول الشاكرين وقد كان من أمر هذه الحادثة ما قطع كل قلب وجلب كل كرب ومثل وقوع هذه الواقعة لكل أحد ولا سيما لأمثال المملوك ومواعظ الموت بليغة وأبلغها ما كان في شباب الملوك فرحم الله ذلك الوجه ونضره ثم السبيل إلى الجنة يسره‏.‏

وإذا محاسن أوجهٍ بليت فعفا الثرى عن وجهه الحسن والمملوك في حال تسطير هذه الخدمة جامع بين مرضي قلب وجسد ووجع أطرافٍ وعليل كبد فقد فجع المملوك بهذا المولى والعهد بوالده غير بعيد والأسى في كل يوم جديد وما كان ليندمل ذلك الفرح حتى أعقبه هذا الجرح والله تعالى لا يعدم المسلمين بسلطانهم الملك العادل السلوة كما لم يعدمهم بينهم صلى الله عليه وسلم الأسوة ‏"‏ وأخذ في نعت الملك العادل إلى أن قال -‏:‏ ‏"‏ ودفن بالقرافة الصغرى يعني العزيز في قبة الإمام الشافعي - رضي الله عنه -‏.‏

وقبره معروف هناك ‏"‏ انتهى كلام ابن خلكان برمته ولم يتعرض لشيء من أحواله ولا إلى ما كان في وقال أبو المظفر سبط ابن الجوزي في تاريخه‏:‏ ‏"‏ وفيها يعني سنة خمس وتسعين توفي الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين صاحب مصر‏.‏

كان صلاح الدين يحبه وكان جوادًا شجاعًا عادلًا منصفًا لطيفًا كثير الخير رفيقًا بالرعية حليمًا‏.‏

حكى لي المبارز سنقر الحلبي - رحمه الله - قال‏:‏ ضاق ما بيده بمصر يعني عن العزيز ولم يبق في الخزانة درهم ولا دينار فجاء رجل من أهل الصعيد إلى أزكش سيف الدين قال‏:‏ عندي للسلطان عشرة آلاف دينار ولك ألف دينار وتوليني قضاء الصعيد فدخل أزكش إلى العزيز فأخبره فقال‏:‏ والله لا بعت دماء المسلمين وأموالهم بملك الأرض‏!‏ وكتب ورقة لأزكش بألف دينار‏.‏

قال‏:‏ اخرج فاطرد هذا الدبر ولولاك لأذبته‏.‏

وقد ذكرنا أنه وهب دمشق للملك المعظم وكان يطلق عشرة آلاف دينار وعشرين ألفًا‏.‏

وكان سبب وفاته أنه خرج إلى الفيوم يتصيد فلاح له ظبي فركض الفرس خلفه فكبا به الفرس فدخل قربوس السرج في فؤاده فحمل إلى القاهرة فمات في العشرين من المحرم ودفن عند الشافعي - رحمه الله - عن سبع وعشرين سنة وشهور وقيل‏:‏ عن ثمان وعشرين سنة‏.‏

ولما مات نص على ولده ناصر الدين محمد وهو أكبر أولاده وكان له عشرة أولاد ولم يذكر عمه العادل في الوصية‏.‏

وأوصى للأمير أزكش وكان مقدم الأسدية وكبيرهم وعاش بعد العزيز مدة طويلة ‏"‏‏.‏

انتهى وقال ابن القادسي - خلاف ما نقل أبو المظفر وابن خلكان وغيرهما - قال‏:‏ ‏"‏ كان قد ركب وتبع غزالةً فوقع فاندقت عنقه وبقي أربعة أيام ومات‏.‏

وبقي على ولده الأكبر محمد إن أمضى العادل ذلك‏.‏

وكانت الوصية إلى أمير كبير اسمه أزكش فوثبت الأسدية عليه فقتلته ‏"‏‏.‏

انتهى‏.‏

وقال الشيخ شمس الدين يوسف بن قزأوغلي في تاريخه‏:‏ ‏"‏ ولما مات العزيز كان لابنه محمد عشر سنين وكان مقدم الصلاحية فخر الدين جهاركس وأسد الدين سرا سنقر وزين الدين قراجا فاتفقوا على ناصر الدين محمد يعني ابن العزيز وحلفوا له الأمراء‏.‏

وكان سيف الدين أزكش مقدم الأسدية غائبًا بأسوان فقدم فصوب رأيهم وما فعلوه إلا أنه قال‏:‏ هو صغير السن لا ينهض بأعباء الملك ولا بد من تدبير كبير يحسم المواد ويقيم الأمور والعادل مشغول في الشرق بماردين وما ثم أقرب من الأفضل نجعله أتابك العساكر‏.‏

فلم يمكن الصلاحية مخالفته‏.‏

وقالوا‏:‏ افعل فكتب ازكش إلى الأفضل يستدعيه وهو بصرخد وكتبت الصلاحية إلى من بدمشق من أصحابهم يقولون‏:‏ قد اتفقت الأسدية على الأفضل وإن ملكوا حكموا علينا فامنعوه من المجيء فركب عسكر دمشق ليمنعوه ففاتهم وكان الأفضل قد التقى نجابًا من جهاركس إلى من بدمشق بهذا المعنى ومعه كتب فأخذها منه وقال‏:‏ ارجع فرجع إلى مصر‏.‏

ولما وصل الأفضل إلى مصر التقاه الأسدية - نحكي ذلك كله في أول ترجمة الملك المنصور بن العزيز هذا إن شاء الله -‏.‏

وكان الملك العزيز قويًا ذا بطشٍ وخفة حركةٍ كريمًا محسنًا عفيفًا لم يرد سائلًا وبلغ من كرمه أنه لم يبق له خزانة ولا خاص ولا ترك ولا فرش‏.‏

وأما عفته فإنه كان له غلام تركي اشتراه بألف دينار يقال له‏:‏ أبو شامة فوقف يومًا على رأسه في خلوة ليس معهما ثالث فنظر العزيز إلى جماله وأمره أن ينزع ثيابه وقعد العزيز منه مكان الفاحشة فأدركه التوفيق ونهض مسرعًا إلى بعض سراريه فقضى وطره وخرج إلى الغلام وأمره بالخروج عنه‏.‏

انتهى‏.‏

ويحكى عن عفته عن الأموال‏:‏ أن عرب المحلة قتلوا بعض أمرائه وكان والي المحلة ابن بهرام فجباهم عشرة آلاف دينار وجاء بها إلى القاهرة فصادف في الدهليز غلامًا خارجًا من عند السلطان فقال ابن بهرام‏:‏ ارجع إلى السلطان واستأذنه لي فقال الغلام‏:‏ دعني أنا في أمر مهم للسلطان قد وهب لشيخ صياد دينارين وقد سيرني إلى الجهات كلها فلم أجد فيها شيئًا وقد تعذر عليه هذا المبلغ اليسير فقال‏:‏ ارجع إليه معي مال عظيم‏.‏

فلما دخل ابن بهرام إلى العزيز فض المال بين يديه وقال‏:‏ هذا دية فلان فقال‏:‏ أخذتها من القاتل قال‏:‏ لا بل من القبيلة فقال العزيز‏:‏ لا أستجيز أخذه رده على أربابه فراجعه فاكفهر فخرج ابن بهرام بالمال وهو يقول‏:‏ ما يرد هذا مع شدة الحاجة إلا مجنون‏.‏

فرحم الله هذه الشيم‏.‏

انتهت ترجمة الملك العزيز من عدة أقوال‏.‏

رحمه الله تعالى وعفا عنه وعن جميع المسلمين والحمد لله رب العالمين‏.‏